fbpx

السَّيْر نحو الحب | سلسلة الفيل

  أوحت لي الأغنية التي صادفتها أنه سوف يكون صباحنا الأخير، ونهارنا الأول منذ التقينا، وأني حبي لك لن يفقد ولن يُستعاد، وأني على وشك دخول مرحلة الضياع وكل ما يأتي معها من قسوة ..
أعلم جيدًا أن حبك كان يأتي على شكل مدفأةٍ في الشتاء، وأقلامٍ حمرةٍ في الصيف، وأنّ الكلام الذي كنت أريد سماعه منك لم يجد أبدًا مردوده عندك كي يخرج نحوي .. وأعلم كذلك أن الحب قد يكون أحيانًا أكثر مما قد نحتمل أو نفهم. كل الأشياء تنتهي بتفاصيل تفرضها الحياة، وأخرى يفرضها الموت، كان حُبًا عظيمًا وكانت أعوامًا صعبة، شكرًا على الاحتواء، ومُمتنة بشدة للنهاية.

   بيروت ٢٠١٤م

   تلك كانت رسالتي الأخيرة، أحاول جاهدةً أن أعفيه من وزر كل ما تبعها من أحداث، لكن وُجوده مثل رحيله، حرّك مجرى القصة -قصتي- وارتحلتُ بنفسي إلى أماكن لم أكن سوف أخطيها في السّابق، لو لم أخسر توازني بخسارة الحُبّ.
   قد يظُن بعضهم أنني أبالغ، لكن حقًا.. هل اختبرتم يومًا فقدان من تُحبون؟ ولا أعني بقولي مُجرّد قرابةٍ أو أصدقاء، بل أشخاصٌ تحبونهم فعلًا ليس كما في الأفلام، بل في الواقع بكل تفاصيله العادية والمملة التي لا ندرك حضورها إلا حين تختفي من مدار يومياتنا، فيبدأ سيلُ الأسئلة، حتى الجلوسُ على الأريكة أصبح مُحيرًا، حيثُ أننا اعتدنا تقاسمها؛ الجهة اليمنى له، والجهة اليُسرى لي، والآن في غيابه.. ما الجهة التي سوف أختارها؟

   حسنًا.. اليوم أمستْ هذه الأريكة عرش وحدتي؛ لذلك سوف أجلس في الوسط، لم أشرح له طوال السنوات الثلاث من علاقتنا أن هناك أشخاصًا مثلي لم يتلقوا الحبّ لا باللمس، ولا بالكلام، وأن موجات القلق التي تُرافق العلاقة تفرض على مَنْ هُم مثلي أن نُدمر الحب كي يختفي القلق ونرتاح، وأنه من الصّعب تصديق أن أحدهم يُحبني، وأنني منذ طفولتي لطالما بحثت عن سند؛ عن صورة الأب فغيرتُ ديني ليصير الله هو أبي القاطن فوقي في السماء، وعدت وتخليت عنه هو أيضًا؛ لأن أماني الخاصة تفرض عليّ عدم الشعور بشيء، لكن ما لم يخبرني إياه أحدٌ هو أن ما بعد الحبّ ليس مثل ما قبله، وأنه في شؤون القلب لا شيء يؤلم مثل فقدان الآخر، وهذا أمرٌ مؤكدٌ، إن كان من خلال الحياة أو من خلال الموت ..

 

   جاءت صدمتي الأولى في الصّغر، تحديدًا عندما كنت أبلغ من العمر ثمانية أعوام، تلقيت خبر وفاة أبي، وقتها أحسست أن لجسدي حدودًا غير مُحصّنة، بإمكان الجميع رؤيتها، صار لي وجودٌ مُرعب، لا أقدر على التعامل معه وحدي، وان يتعامل معه أحدٌ من أقاربي، أو حتى أمي.

   والدي الذي كان يُمسك بيديّ يوميًا ويسير بي نحو المدرسة، علّمني كيف أقرأُ السّماء؟ فكنت حين أتوه أبحث عن النّجم القطبيّ؛ لأستعيد مساري. أبي الذي آمن بالتراب وأحبَّ الأشجار، أجلسني تحت الحور والصفصاف، وضع قدماي في التراب لكي تأخذ الأرض منّي كل ما يُزعجني؛ لتعود وتأخذ كل جسده منّي، بعد صراعه مع المرض، فما كان منّي إلا أن أنكر الأرض، وأرفع نظري للسّماء باحثةً عن وجهته في النجوم، وهكذا أوجدت عالمي البديل، وقطعت عهدًا على نفسي.. ألا أتعلّق بأحدهم حتى لا أفتقده.

   بعد رحيل أبي بحوالي ٣ أعوام، عادت أمّي وتزوجت؛ وذلك لأنها خضعت بوصفها امرأةً مطلقة لأحكام المجتمع، بالإضافة إلى عدم قدرتها على إعالتنا، ومن ثمّ عشنا تحت سُلطة زوجها الذي كان -غالبًا- ما يُعبّر عن أفكاره بالصراخ، ويُعلق بأسلوبه العصبي على كافة تفاصيل حياتنا، كان مُزعجًا للغاية، حاول جاهدًا أن يحتل مكانة أبي في حياتي، ومكانة الزوج الوحيد في حياة أمي، لكنه بطبيعة الحال فشل حيث أنه لم يكن أبًا، وإنما كان شخصًا غريبًا عنّا، لا تربطنا به سوى عقْد زواجه من أمي، وسلطته الاقتصادية، وقلقنا الدائم من ردود أفعاله.

   في تلك المرحلة الفاصلة بين الطفولة والمُراهقة، قضيتُ معطم وقتي في الغرفة مُتجنّبة اياه من خلال الراديو الصغير في الحمام؛ لأُفْرِغَ كل القلق الذي بداخلي عبر التقيؤ، وأمام الحائط الذي كنت كلما ازددت طولًا أمامه أُقَبِّلَ بلاطةً جديدةً منه كتدريبٍ على التقبيل، وفي المدرسة الخالية من الصّداقات خلقتُ لنفسي شخصيّةً بديلةً أصلب منّي، وخبأتُ فيها كل الضعف، والقلق، والهشاشة القابعين بداخلي، وهكذا ظهرتُ أمام كل مَنْ أصادفهم “فتاة شجاعة”، ولا أحتاج إلى مساعدةِ أحدٍ منهم.

   وخلال الفسحة، كنت أضع ورقةً بيضاء على حافة المقعد، وأعبّر عن آرائي من خلال الرّسم، مقتنعةً أنني وحدي فقط من أستطيع التعامل مع كل ما يجري بداخلي، كبرتُ خلال السنوات اللاحقة على يدّ الفتاة الشجاعة التي أنقذتني من القصص المُكررة والمُعادة مع ملايين البشر، ومن سذاجة أمي وصرامة زوجها، وترسّخ لديّ مبدأ أنه كلما قلّ تعلقي تضاءلتْ خساراتي، ومن ثمّ تعلمت النجاة ونسيتُ الحُبّ والتواصل البشري.

   ومع تفاقم نكراني لمشاعري وأوجاعي النفسية، تدهورت أوجاعي حول جسدي وصورته، وسيطر مرض البوليميا على كل جوانب يومياتي، كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لأفْرِغ كل ما كنتُ أُنْكِره، والنتيجة الطبيعية لفائض السيطرة الذي فرضته على نفسي، هذا ما استنتجه، أو بالأحرى هو ما أخبرتي به طبيبتي النفسية، وذلك حين كبرتُ وبدأتُ أخوض علاجي النفسي في عام ٢٠١٧م، وذلك بعدما وصلتُ لمرحلةٍ لم أكن قادرةً من خلالها على العيش بأسلوبٍ طبيعيّ، وأصبحتُ أعاني من مرضي الاكتئاب والبوليميا.
   لكن لنعدْ -الآن- إلى البداية.. إلى عامي الثاني عشر، حيثُ كنتُ أنسلّ إلى المطبخ حريصةً على أن لا يُلاحظني أحدهم، أسرقُ كل ما تبصره عينايّ، من: طعامٍ، وحلوى. أخبأها في ملابسي داخل حمالة صدري، أو في الجيوب الصغيرة بين سروالي وملابسي الداخلية، وفي حال لم تنجح عملية السرقة، كنت أتناول الطعام مُباشرةً من الطنجرة، أعبئ فمِّي حتى عدم لا يستطيع تلقّي المزيد، وأمضغُ بسرعةٍ هائلةٍ قبل أن يضبُطنِي أحدهم، كما أهرول مُسرعةً من الحمام خوفًا من أن تتساقط غلّتي على الأرض.
   وبعد إحكام الباب وغلقه أُخرِجُ قطع الشوكولاته وكل ما حصدته، ثم أبدأُ في تناولها بشراهة، يأتي شعور الذنب بعد القضمة الأولى، لكنني عاجزةٌ عن إيقاف حركة يديّ المتوجهة إلى فمِّي، فأنتقم منها بقضمها دافعةً بها عميقًا نحو حنجرتي، حتى يبدأ جسدي بالتخلص، ولا أتوقف حتى يطفو الحامض من معدتي، ويبلغ لساني فيحرقه، وأشعر بأسناني تحتك ببعضها بطريقةٍ مُزعجة، هكذا أكون قد تحققتُ بأني خاليةٌ من الطعام، كل ما دخل إلى جسدي عليه أن يخرج منه، وبعد كل عمليةٍ ناجحة أنهضُ عن الأرض، وأمسح اللعاب عن وجهي ورقبتي، ثم أرجع إلى المطبخ لأعيد الكرّة مجددًا كلما سواء واتتني الفرصة نهارًا أم مساءً.. هكذا أرتاح.

هذا المقال مأخوذ عن سلسلة الفيل، وهو مُحتوى صوتي على هيئة حلقات وقصص واقعية عن المرض النفسي، هذا المُحتوى مدعوم وممول من قبل مشروع سي اف آي المُشغل من قبل وزارة الشؤون الخارجية والتنمية الدولية الفرنسية، للاستماع إلى المزيد حول هذا المشروع انقُر الرابط.

كما يمكنك الاطلاع على:

  1. الدورة الشهرية واضطراباتها
  2. اضطراب نتف الشعر
  3. اضطراب الشخصية العدائية

تعليقات