على خُطى أمي | سلسلة الفيل
” أمّك مُخها تعبان “
تتردد في رأسي الكلمات ..
“كنتُ طفلةً في السابعةِ من عمرِها تأبى تصديقَ أنَّ تقاذُفَ والدَيها بـ “حلل المطبخ” هو كلُّ ما تحتاجُ إلى معرفتِه عن الحبِّ، وعندما اشتدت المشاجرات بينهما، خافت الأسرة أن أقع ضحية اختياراتهما، وأخذتني جَدتي لأعيشَ معها تاركةً أختي الصغرى لأمي.
رأت جدتي وقتها أن رقية ذات الأعوام السبعة كبرت بما يكفي لتستوعب ما يجري حولها وتنفصل على أمها، بينما ثناء حفيدتها الصغرى مازالت متمسكةً بأمها، حتى لو لم تُردها هي، وأن أمها لن تستطيع رعاية طفلتين، حزمت أمتعتي ورحلت عن البيت. لم تكن جدتي حينها متقدمةً في العمر لدرجةٍ تمنعها عن رعايتي، فقد تزوجت وأنجبت في سنٍ مِبكرةٍ جداً، مما جعلها تتولى أمر ابنتها التي تعاني من مشكلاتٍ نفسيةٍ عديدة، وظنوا أن الزواج يحلها فزادها سوءاً، لم أشعر يوماً بالغربةِ في بيت جدتي، كانت أكثر من أمٍ بالنسبة لي، ومنحتْني كلَّ ما أردتُ قبلَ حتى أن أطلبَه.
كانت تدفعني دفعاً للحياة من أجل أن أحظى بطفولةٍ ومُراهقةٍ طبيعيتين، لكن رفم محاولاتها كانت تتردد في الخلفية صورة أمي، حتى مع اختفائها طوال العام، واجتماعنا في الأعياد والمناسبات الرسمية فقط، شعرت بدخان سجائرها يُحيط بي أينما حللت، يسحب الأكسجين من الهواء ويتركني مُختنقة. ولكن بقي في أذني رنينُ أواني الطبخِ وهي تصطدمُ بالحائطِ بعدَ أن يتحاشاها والدِي ببراعةٍ أكسبتْه إياها الخبرةُ. لم تغادرْني قطُّ أصواتُ عِراكِ والدي المستمرِّ، وتدخلُ الأسرةِ، ثم طلاقُهما، وهمساتُ الأقاربِ حولَ وضعِ أمي الصحيِّ.
لم أجزم يوماً بأنني أعرف هذه المرأة معرفةً كافية، كانت تركيبةً غريبةً لم أفهمها إلى يومي هذا، انطوائيةً جداً، ترتبك عندما يكون حولها آخرون، مهما كانت درجة قربهم لها، تتجنب الزحام والتجمعات، تدخن بشراهة ستقضي عليها يوماً ما، سيئة النيّة، كما أن لديها قدرةً غير طبيعية لتحويل أي حوارٍ إلى عراكٍ شرس، وعلى الرغم من كل مساوئها، إلا أنها تثق ثقةً عارمةً بجمالها، لدرجةِ أنها فقدت بعض أسنانها التي لم تغسلها لسنوات، وأصبح شعرها أشعث، إثر إهمالها لتمشيطه لأسابيع وربما لشهور، وعلى الرغم من كل ذلك، أظن أنها كانت ترى نفسها أجمل امرأةٍ في العالم، امرأً لا يفهمها الآخرون، وهو ليس ذنبها، وإنما غباؤهم.
أشفقت على أختي التي عايشت هذه الشخصية المعقدة، كنت أراها من حينٍ لآخر حينما تأتي برفقة عمي إلى بيت جدتي، كنا نلتقي أكثر من التقائي بأمي، ولكني لم أشعر يوماً أن هذا كافٍ، فقد نشأنا في عالمين مُختلفين تماماً، وربما كنت أكثر حظاً منها، ولكنها كانت قوية، استطاعت أن تمضي قدماً، رغم ما زرعتها فيه أمي من عُقد. بعد انفصالها عن أبي وزواجه من امرأةٍ أخرى، لم أشعر يوماً أنّي أفتقدها، لأنها حتى لو تمسكت بتربيتي، فلن تكون أحنّ عليّ من جدتي، التي كرست حياتها من أجل سعادتي.
أذكر مرةً عدت فيها إلى المنزلِ باكيةً، كنت أبكي كطفلةٍ في التاسعةٍ من عمرها، وذلك بعد تعرضي لإهانةٍ في الكلية من إحدى صديقاتي، حيث سخرت من وزني الزائد وقتها، عندها دخلت إلى غرفتي وامتنعت عن تناول الطعام ليومين كاملين، لكنها لم تبرح مكانها إلا عندما فتحت لها، ودخلت إلى وقالت: (والنبي مانا دايقة الأكل غير لما تاكلي، دا أنا عاملالك طاجن البامية اللي بتحبيه)، واعدةً إياي باصطحابي إلى طبيب السمنة، من أجل أن أصبح أجمل من أي فتاة فكرت لي السخرية منّي، وعلى الرغم من علاقتنا المستقرة، كانت جدتي تتعمد تجاهل كل علامات عدم الاتزان في تصرفاتي.
كبرت البنت وكونت صداقاتٍ وعلاقاتٍ وهواياتٍ وحياةً متكاملة، ولكنها من حينٍ لآخر، كانت تنفجر في بكاءٍ هستيري على أمورٍ تافهةٍ للغاية، أمور لا تستحق، تبكي بحرقةٍ تفوق حجم المشكلة التي واجهتها، لتأتي جدتي وتراني مكومةً في ركن في المطبخ، ومرةً في الصالة، ومرةً في غرفتي، وكانت تتعامل وكأن هذا أمرٌ طبيعي، وكأنها لم تتعجب من انفعالاتي غير المنطقية، وكأنها لا تراني احتضر ما بين يديها، مازلت أصاب بالحالة نفسها إلى يومنا هذا، حيث يضيق صدري، وأنفاسي تتهدج، وأختنق بالبكاء، ولا أعرف كيف أتوقف حتى يُبحّ صوتي، ويموت تدريجياً، لا أعرف لما أسرد كل هذه للتفاصيل الآن، ولكني أشعر أنها بشكلٍ أو بآخر جزءٌ من الحكاية.
على خُطى أمي
تخرجت من الجامعة بتقدير مقبول، وارتضيت بذلك، ثم حصلت على وظيفةٍ مكتبيةٍ في شركةٍ صغيرة، واستقرت أموري لبعض الوقت، إلى أن قابلت عليّ، وهو صديق ابن خالتي في إحدى المناسبات العائلية، لقاءً حسبته عابراً، لكنه جرّ خلفه الكثير من اللقاءات الأخرى، مُفعمةً بمشاعر كنت أختبرها لأول مرة، بدا لي وسيماً مُهذباً، ناجحاً في عمله، ربما كنت أريد أن أحب، أو على أقل تقدير، أزعم معرفتي بهذا الشعور، ولم استطع أن أفصح لجدتي عن ما في قلبي، فرغم حنانها عليّ، كانت امرأةً تقليديةً للغاية، لا تؤمن بالحب بقدر ما تؤمن بالزواج، وبالنسبة إليها، ليس من الضرورة أن يجمع القدر ما بين الاثنين، فرأيت أني لو أخبرتها أي علي ينظر إلي نظرةً إعجاب، لاعتبرتها: (دلعاً وقلة أدب)، ولكن لم يطل انتظاري كثيراً، فسرعان ما تقدم علي لخطبتي من عمي، حتى من دون أن يصرح لي بشعوره.
احترمت حياءه، وأبديت لعمّي موافقتي على لقائه للتعرف عليّ أكثر، أخذ يأتي إلى بيت جدتي بشكل أسبوعي تقريباً، وعندما وجدنا أننا مُتفقان في معظم الأمور، عجلنا بالخطبة وبعدها الزواج، وبعد الزواج، استطاع والده توفير وظيفةٍ له في الكويت، وذلك عن طريق زوج اخته الذي يعمل في شركة بترولٍ هُناك.
وبالطبع لم يكن تمسكي ببلدي، وجدتي، وأصدقائي له معنى أمام مُستقبله المهني، لم أعترض، وقررت أن أبدأ في مكانٍ جديدٍ بصُحبته كان كل ما تمنيته من الدنيا، وما أهمني هو سعادته بصرف النظر عن راحتي، وفي بداية الأمر عشنا في بيت أخته، كنت حريصةً أشد الحرص على عدم الاحتكاكِ بها، ولكن لم يدم السلام طويلاً، فأخته كانت تتربص بي دوماً، وبعد سماعها مكالمتي مع إحدى صديقاتي وأنا أغتابها، أصبح الوضع غير مُحتمل.
ملّ علي من مشكلاتي معها، فقررنا الانتقال للعيش في بيتٍ مُستقلّ، لم أكن أعمل وقتها، وبدأ شعوري بالفراغ يقتلني، حيث يخرج علي إلى عمله في الصباح، ويتركني وحدي ولا يعود لعمله إلا في ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، كان لدي متسع من الوقت ومساحة لنوبات بكاءً هستيري، ولكن هذه المرة ليس هناك من يرى دُموعي، كنت أنهار ثم ألملم اشلائي قبل أن يعود إلى البيت، ليجدني كما كنت عادية.
كانت جدتي تتصل بي أسبوعياً للاطمئنان على أحوالي، وكنت أشعر بأنها تود أن تسألني، هل تأتيني هذه النوبات حتى بعد الزواج، ولكنها قط لم تجرؤ على فتح الموضوع معي، تجنبته بشتى الطرق، وكأنها لم تُرد أن تصدق أن بي شيئاً لم تستطع هي إصلاحه بعد أن هشمته أمي.
فور زواج إحدى أخوات عليّ، دفعني الفراغ إلى الدخول في سباقٍ غير مُعلنٍ معها، حول من ستحمل أولاً، وكسبت السباق بجدارة، فخلال شهرٍ كنت حاملاً، وبعد إنجاب ابنتي بفترةٍ قصيرة أنجبت ولداً آخر، حدث كل شيءٍ بسرعةٍ غير مُبررة، ولم أستوعب حينها مدى خطورة اختياراتي، كانت ابنتي ومن بعدها ابني مُصابين بفرط الحركة وفقاً لتشخيص الأطباء.
كانا قادرين على استفزازي بشتّى الطُرق، وفي ظل غياب والدهما مُعظم الوقت، وقع العبئ كله على كاهلي، وجدت نفسي أفقد أعصابي بسهولة، أصرخ في وجهيهما، ألعنهما، وأخيراً أركلهما بعنف، في البداية لم أشعر أنني قادرةٌ على إيذائهما، إلى أن رأتني إحدى أخوات عليّ في مأدُبةٍ أعدتها لنا والدته في إجازته السنوية، وأنا اسحب ابني إلى غرفة الضيوف، وأتجادل معه، ثم أضربه، وقتها تحدثت مع عليّ بخصوص أسلوبي، وجاء هو ليناقشني في الأمر، بالطبع أرجعت الأمر إلى أنها تغار مني، لأنني أنجبت الولد وهي لم تفعل بعد، ولكن في المرات التالية، بدأت أدرك الكدمات التي سببتها لطفلي، وزادت انهياراتي بعد الإنجاب، أذكر أول مرةٍ رأتني فيها ابنتي أبكي على أرضية المطبخ، فأسرعت إليّ واحتضنتني بذراعيها القصيرتين ولم تتركني حتى انتهت النوبة.
تعودت منذ الصغر أن أقاوم هذه النوبات وحدي، ولكن منذ ذلك الموقف أصبحت ابنتي تصحبني فيها حتى أهدأ تماماً، باستثناء هذه الأحاسيس المضطربة، كنا أسرةً سعيدةً إلى حد كبير، لم تُفقدني الضغوط حبي لعليّ، كانت صورته هي صورة صفحتي على الفيسبوك وخلفية هاتفي، وقد شهد الجميع على حبنا.
كنت حريصةً على قضاء بعض الأيام من إجازتي الصيفية في بيت جدتي، والتي افتقدتني كثيراً، وكنت أقابل أختي وصديقاتي، حذرتني جدتي كثيراً من إخبار صديقاتي شيئاً عن حياتي حتى لا يحسُدني أحد، وخصوصاً اللواتي لم يتزوجن حتى الآن، فدائماً كانت تقول لي داري على شمعتك، ولكنني كنت أتجاهل أسلوبها العتيق في الحياة. وأعدُّ خوفها لا داعي له، وأشارك صديقاتي حياتي دون حدود. وفي السنة الثامنة لي في الكويت، وذلك بعد أن تخلت الشركة عن معظم موظفيها دون مُقدمات، وأصبحنا بلا دخل، أخد يبحث عن وظيفةٍ أخرى، ولكنه لم يُوفق لشهورٍ عديدة، حيث انتهت مدخراتنا ولم يستطع أحدً من عائلته أن يساعدنا.
فكرت حينها في أن أحصل على وظيفةٍ لتحسين الوضع، ولأنني لم أكت متمسكةً بمجالٍ معين، استطعت خلال فترةٍ وجيزةٍ أن أحصل على وظيفةٍ في إحدى المحال التجارية، حيث عملت بقسم المبيعات، وساعد دخلي المحدود بعض الشيء، بالإضافة إلى ما اقترضته من جدتي وقتها، وبعد عناء، استطاع علي أيضاً الحصول على وظيفةٍ لم يكن راضياً بشكلٍ كاملٍ عنها، لأنها كانت في منصبٍ أقل مما تركه في وظيفته السابقة، ولكنه ارتضاه نظراً لوضعنا المادي، ووقتها عرض عليّ أن أترك وظيفتي، لأننا لم نعد بحاجةٍ مُلحةٍ إليها، لكنني أحببت شعور أن يكون لي دخلٌ خاصٌ بي، وقررت أن استمر في وظيفتي.
تدريجياً استطعت الانتقال من منصبٍ إلى منصبٍ أعلى، وفاق راتبي راتب عليّ، وظننت أنه قد يكون سعيداً، لأنه الآن باستطاعتنا تأمين مُستقبلٍ أفضل لولدينا دون الاستدانة من أهالينا.
ولكن على النقيض بدأت أشعر بالضجر على وجهه وأنا أتحدث عن يومي في العمل، حتى أنه بدأ يسخر مني ومن إنجازاتي، وأحياناً يطلب مني دون استحياء، أن أغيّر الموضوع أو أصمت أفضل، ربما امرأةً غيري كانت ستتجنب إزعاج زوجها، كانت ستعظمه وتمجده وتقلل من كيانها لتُرضيه، لكنني لم أفعل ذلك، ففي كل فرصةٍ أتيحت لي استعرضت ذاتي، واستمتعت بتتبع علامات الحنق على وجهه العابس، واتضح لي أنه أحبني وأنا ضعيفة، ولم يعد يُحب قوتي، ولكنني أحببته وهو ناضج ولم أعد أتحمل طفولته، ولم يدم صامتاً لفترةٍ طويلة، وإنما سارع الاتصال بعمي، شاكياً له أنني لم أعد أنظف البيت ولم أعد أرعى أولادي، ولم أعد أطبخ له، ولم يكن يكذب، فقد تراجعت عن بعض أمور البيت، لأنني كُنت مُرهقةً من عملي، لكنه لم يقبل أن يشاركني هذه المسؤوليات، وظنني الجارية التي أحضرتها له أمه.
اشتدت الخلافات بيننا، وفي أحد شجاراتنا جذبني من شعري، وألقى بي على الأرض، واصطدم رأسي بطرف الأريكة، ونزف أنفي، بكيت يومها إلى حد الجنون، واتصلت بجدتي لأحكي لها ما حدث، فبكت هي أيضاً، طالبةً مني أن أستقيل من وظيفتي واتقي الشر، لم أطل الحديث معها، وكبتت الغضب بداخلي، وفي شجارنا التالي قذفته بالملاحة، وهكذا بدأنا في تكرار الألم نفسه الذي عاصرته وأنا طفله، لكن هذه المرة لم يكن هناك من يتدخل ليُنقذ طفليّ، اللذان كانا يُتابعان من خلف باب غرفتهما باكيين.
زادت نوباتي وأصبحت تصيبني في البيت والعمل، وأصبحت أسرع إلى الحمام وأكتب بكائي بكل ما بي من قوة، لجأت إلى عمي وزوج أختي بعدما أدركت أن جدتي ليس بيدها حيلة، ولكنهم جميعاً نصحوني بأن أحافظ على بيتي وأسرتي وأن أعيش من أجل ولديّ كما تفعل كل الأمهات.
الجميع أرادوا إبقائي في الكويت بأي طريقة، حتى لا يُضطرون إلى تحمل مسؤولياتي ومسؤولية طفليّ، أقسم أنني حاولت، كنت أنام في سرير ابنتي كل ليلة حتى لا يلمسني، تعاملت كأن زوجي عير موجودٍ في حياتي، كنت أنحرك حوله وكأنني لا أراه أصلاً، فبدأ يستثير عطفي، يعتذر ويتقرب إلي، ولكن كل محاولاته كانت تذكرني بأنفي وهو ينزف، بدفعه لي لأكون نُسخةً مُصغرةً من امرأةٍ كادت تُدمّر حياتي، كنت أتجاهله، فيحاول جاهداً كي يستفزني لأرد عليه وأكف عن تجاهله وفي النهاية نجح.
حاول أن يلمسني مرةً رغماً عني فأخذت أصرخ في وجهه: (ابعد عنّي بكرهك، مش عايزة أبص في خلقتك)، بعد هذه الليلة تحديداً طلبت منه أن يُطلقني فرفض، هددني وقال لي أنه إذا طلقني فسوف يأخذ الولدين ويتزوج من امرأةٍ أخرى، فوحدت نفسي أساومه كي يأخذ الولد ويترك لي البنت، ولكنه رفض، كنت أعلم جيداً أنه يستفزني، ولن يستطيع تحمل مسؤولية طفلين، ولن ترتضي أمه أن تربيهم بدلاً مني.
أبلغت جدتي أننا اتفقنا على الطلاق، وأنني عائدةٌ لأعيش معها بولديّ، لأصدم بقولها: أنني لو عدت إليها فلن تقتح لي بابها، ولن تسمح لي بالعيش معها، لأنني سأكون قد عارضت أوامرها وهدمت بيتي بيدي، عندها اتصلت بعمي وأختي، حتى أبي الذي بالكاد أعرفه وتوسلت إليهم جميعاً، ولكن الجميع رفضني، اتصلت بصديقاتي المُقربات، ولكنهم صارحنني بأنهن لن يستطعن استقبالي ولو لفترةٍ محدودة.
حاربت بشتّى الطُرق ولكن تخلى الجميع عنّي، فلم يعد لدي ما أساعد به نفسي أو ولديّ، وجدت نفسي أصارح علي الذي لم يعد متمسكاً بالطفلين بأنني لن استطيع اصطحابهما، ومضيت له على ورقة تنازل عن حضانتهما، وحزمت حقائبي وعدت إلى مصر. لم يفهما إلى أين أنا راحلة ولم أعبأ أنا بالتفسير، فمهما قلت أنا عن نفسي، أعلم أن أباهما سيقول لهما أسوأ القصص عني، طرقت باب جدتي ولم تفتح، فرحلت وعدت في اليوم التالي ولم تفتح، حيث رفضت أن تدخلني بيتها بعد أن تمسكت بالطلاق.
دفعت ولدي ثمناً لحريتي، كان الجميع يظنونني مجنونة، يتساءلون كيف جردني ربي من الأمومة الحقيقية، ثم يُرجعون ذلك إلى مرض أمي، ويزعمون أني ورثت اضطراباتها النفسية وقسوة قلبها، ولكنني لم أكن يوماً أعرفها، فكيف لهم أن يظنوا أن لها هذا التأثير فيّ، رفض عمي أن يستقبلني في بيته، وتعللت أختي بأن زوجها لن يرتاح في وجودي، فانتهى بي الأمر في الشارع، بلا عائلة ولا أولاد ولا مستقبل، فقط حريةٌ غير محدودة، لا أعرف ماذا أفعل بها.
وعندما انتهى ما بقي معي من أموال، اتصلت بإحدى صديقاتي التي تعمل بفندقٍ شهيرٍ في القاهرة، وساعدتني على أن أحصل معها على وظيفةٍ في الفندق نفسه، وهناك التقيت بمحمود، حيث بدا مُختلفاً رقيقاً حنوناً، طيباً ومتزوجاً. صرح لي محمود بإعجابه، فاتصلت بجدتي كي تلتقي به، ولكنها أغلقت الخط، وفي يوم خطبتنا لم يأتي أحد، حتى صديقاتي، تعللن كلهن بالانشغال، أحسست أن محمود هو الحل، محمود هو النهاية السعيدة للقصة، على الرغم من أن نوبات البكاء لم تنتهي، وانقباض قلبي لم ينقطع.
بعد محاولاتٍ عديدة سمح لي علي برؤية طفليّ، من خلال مكالمة فيديو، كنت قد اشتقت إليهما جداً، لكنني حين حكيت لهما عن بابا محمود، قطع علي عني الاتصال، ولم يسمح لي منذ ذلك الوقت بأن أتواصل معهما بأي طريقة، بينما أنا هنا مشغولةٌ ببدء حياةٍ جديدةٍ مع محمود، منغمسةٌ في خلافاتي مع ضرتي، ونبذ أهلي لي، لا استطيع منع نفسي من فكرة أن أحدهم يقول لولديّ: (أمكم مخها تعبان)، هل أنا حقاً كما يقولون عني؟ مجنونة؟ ساديةٌ لأنني تخليت عن ولديّ، أنانيةٌ لأنني أريد أن أبدأ حياةً جديدة؟ هل كل ما قمت به من اختياراتٍ وما سأقوم به في المستقبل هو أمرٌ محسوم؟ هل هو نتاج طبيعي لحالة أمي؟ هل ورثت عنها الجنون كما يقولون؟ لم أعد أعرف الحقيقة من الكذب.
أنتِ لستِ مجنونةً ولا ساديةً يا رُقيّة، أنت تعانين من اضطراب الشخصية الحدية، وهو اضطرابٌ يصيب النساء بدرجةٍ أكبر من الرجال، ولكنه كأي مرضٍ نفسيٍ آخر، يمكنك مواجهته إن كنتِ تمتلكين الإرادة النفسية الكافية، حيث أن كثير من مشكلاتنا واضطراباتنا النفسية، راجعةٌ لتكويننا النفسيّ في مرحلةٍ مبكرةٍ من الطفولة. تعرضك للعنف الأسري، وحرمانك من أبويك، وانتقالك للعيش مع جدتك، غياب الحد الأدنى للمشاعر التي يستمدها الطفل من أبويه، الحب، والاهتمام، والحنان، والطمأنينة، كلها أسباب رئيسيةٌ لما تمرين به الآن.
ربنا جزء منك لم ينسى ما عاصرته خلال طفولتك وصراعاتٍ بين أبويك، وكنتِ بحاجةٍ ماسةٍ إلى القبول، إلى قبولٍ غير مشروط، وهذا لم يتوفر أيضاً طبقاً لما فهمته من حديثك، وعدم حصولك على هذه المشاعر من منابعها الأصلية، أظن أنه بالضرورة جعلك تلجئين إلى شد حاجاتك خارج المنزل، مع أفرادٍ آخرين، في مرحلة طفولتك ومُراهقتك. حكيت عن ارتباطك بزوجك دون تمهّل، ولكنني أتوقع أيضاً أنه قبل لقائك به كان هناك آخرون، سرعان ما تعلقتي بهم بنفس سرعة تعلقك بزوجك، ربما أحببتهم بنفس درجة عشقك لزوجك أو أكثر، لكن سرعان ما تبدلت مشاعرك اتجاههم، ولم يُصبحوا ذوي أهمية، لدرجةِ أنك لم تجدي داعياً لذكرهم في حكايتك أصلاً.
التقلبات المزاجية من أهم أعراض اضطراب الشخصية الحدية، الذين يصارعون هذا المرض في حالةٍ متكررة من التقلبات المزاجية، فأحياناً تشعرين أنك تحبين شخصاً بشدة، ثم تكرهينه في وقتٍ آخر بنفس الشدة، بنفس المقدار دون سبب واضح، تتقلب مشاعرك كالموج دون سابق إنذار، دون سبب واضح.
تتقلب مشاعرك فجأةً دون سابق إنذار، ونو ما يُفسر علاقتك بطفليك، والتي ذكرتِ أنك أحياناً كنتِ تفقدين أعصابك عليهما لدرجةٍ قد تؤذيهما، وهذا أيضاً مرتبطٌ بتقلباتك المزاجية، من الحب والحنان والغضب والعصبية، طلبت من زوجك أن يأخذ البنت ويترك الولد، وهذا لا يعني بالضرورة أنك تفضلين أحد طفليك على الآخر، ولكن هذا قد يكون راجعاً إلى أنها وحدها من استطاعت أن تحتضن رقية المضطربة، الوحيدة التي حضرتك انهياراتك المتكررة، واحتضنتك حتى تهدئي.
ما أقوله ليس بهيّن، فخذي وقتاً كافياً لاستيعابه، فالهدف مما أقوله ليس أن أعدّ عليك أخطاءك، ولكنني فقط أحاول تفسير أفعالك، حتى تتعرفي إلى ذاتك، وتتعلمي كيفية ترويضها في صالحك، كي لا تخسري أشياء ربما تريدين الإبقاء عليها. لاشك بأنك تحتاجين المواظبة مع أخصائي علاج نفسي، قجلسات العلاج النفسي ضرورية في حالتك، وسوف تساعدك بشكلٍ مؤثرٍ جداً وفعال، مع اللجوء لبعض الأدوية التي سيكتبها لك الطبيب، للتخفيف من حدة التقلبات المزاجية.
اضطراب الشخصية الحدية يحتاج إلى العلاج الفوري، حتى يستطيع مصارعه استكمال حياته بشكلٍ طبيعي ومستقل، بينما تجاهل الأعراض وعدم المواجهة، قد يضع صاحبه في خطرٍ حقيقي، فقد يحاول مثلاً إيذاء نفسه، ولذلك يتشارك من حوله مسؤولية الاعتناء به، والتقليل من اندفاعاته، والتيقن من حصوله على العلاج اللازم، كما أن علينا أن نتوقف عن انتقادهم، وتقييم أفعالهم، وإصدار الأحكام التي لن تزيد الأمر إلا سوءاً.
قدم هذا الإرشاد الطبيب النفسي: محمد الشامي
“الفيل” هي حلقات صوتية للتوعية بالصحة النفسية في الوطن العربي، جلسات افتراضية للإرشاد النفسي. في كل حلقة، نستمع إلى قصة شاب أو فتاة عربية مع الاضطرابات النفسية، ثم يأتي دور المختص الذي يقدم الشرح والتحليل والمساعدة، قدر الإمكان، هذا المحتوى مقدم من ستوريتل، ومدعوم وممول من قبل مشروع سي اف آي المشغل من قبل وزارة الشؤون الخارجية والتنمية الدولية الفرنسية.
مقترحات القراءة:
تعليقات