هل هناك بديل يُغني الحكومات عن الإغلاق التام؟
بدلًا من إغلاق مدن بأكملها، يمكننا استخدام البيانات الكبيرة لاتباع نهج يستهدف مواقع بعينها
بعد أن دخلت المدن حول العالم، ومن بينها أوكلاند وجاكارتا وملبورن ، في دورات متكررة لانهائية من عمليات فرض الإغلاق ومعاودة الفيروس الانتشار، أصبحت الحاجة إلى إعادة تقييم هذا النوع من إستراتيجيات الإغلاق أكثر إلحاحًا، خاصةً مع الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية المترتبة عليه. وبالرغم من أن الإغلاق التام قد يكون إستراتيجيةً فعّالة، فإنه وسيلة قاسية ويَصعُب احتمالها. ومع استمرار الجائحة واحتمالية بقائها شهورًا أو حتى سنوات أخرى مقبلة، فنحن بحاجة إلى بديل مستدام يتضمن تدابير تركز أكثر على أهداف بعينها، وتستند إلى الأدلة والبراهين، وتعتمد على البيانات.
لقد أثبتت هذه الجائحة مرارًا وتكرارًا أن المِحَن تحمل في طياتها المنح. ونظرًا إلى أن كوفيد- 19 هو أول جائحة تنتشر في عالم اليوم الذي يتسم بالرقمنة والتواصل الشديدين، فمن الممكن تحليل طبيعة المرض وانتشاره باستخدام البيانات الكبيرة التي تصبح أكبر يومًا بعد يوم. وتمثل هذه البيانات، التي تُجمع من مصادر متعددة، نقطة تحوُّل تساعدنا على معرفة “أماكن النشر الفائق للعدوى“، ويُصبح بإمكاننا بدلًا من إغلاق مدن بأكملها، اتباع نهج أكثر استدامةً يقضي بإغلاق مواقع بعينها تزداد فيها احتمالية انتشار المرض، أو إدارة هذه المواقع بطريقة مختلفة.
كمبدأ أساسي، من الممكن أن تصبح مواقع معينة “مواقع نشر فائق للعدوى” كالناس تمامًا، وتؤدي البيانات الكبيرة دورًا أساسيًّا في معرفة هذه الثغرات المكانية. ونظرًا إلى أن المدن عادةً ما تعج بالنشاط، إذ يمر الناس بها ويجتمعون فيها ويخالط بعضهم بعضًا ثم يتفرقون إلى أماكن مختلفة، فإنها تُعد مراكز تقارب، تسمح بالمخالطة بين الناس ونشر المرض. ولهذا يُصبح من الضروري تحديد التأثير المتبادل بين أنماط حركة البشر داخل المدن وعبرها ومحيط الأنشطة المشتركة التي يجتمع فيها الناس، وذلك للتعامل مع جميع نوبات تفشِّي المرض، كبيرةً كانت أو صغيرة.
ومن الأمور المشجعة لهذا النهج، تَوافُر العديد من مصادر بيانات حركة البشر المفيدة تحت تصرفنا، والتي تساعدنا في معرفة المواقع المعرَّضة للمزيج الخطير الذي يجمع بين ازدحام الناس، والتفاعل الاجتماعي المكثف، والظروف الوبائية المواتية لانتشار المرض. وتتضمن هذه المصادر أيضًا بيانات التحليل الحضري التي تسجل رحلات النقل البري. وفي بعض المدن، مثل هونغ كونغ وباريس وسنغافورة، تخضع بيانات النقل لتحليل منهجي؛ بغرض تحسين التخطيط الحضري وحركة الناس في المدن. ومن الممكن أيضًا أن تساعد تدفقات البيانات الأحدث -التي نحصل عليها من خدمات مشاركة الرحلات، والأجهزة المتصلة بإنترنت الأشياء، مثل أعمدة الإنارة الذكية، والهواتف الذكية التي تشغل تطبيقات حركة المرور، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تحتوي على بيانات الموقع الجغرافي- في رسم خريطة توضح أماكن التقاطع بين أنماط حركة الناس والأنشطة المشتركة والانتشار الوبائي.
اقرأ المزيد: ستة أسباب تجعل مناعة القطيع بدون لقاح فكرة مروعة في جائحة كوفيد-19
تلك البيانات القيّمة المتعلقة بالنشاط البشري يمكن معالجتها بعد ذلك اعتمادًا على أحدث الأدلة الوبائية المتوافرة حول انتشار كوفيد-19. وعلى الرغم من ارتباط هذا المرض بالعديد من العوامل المربكة، أضحت بعض الحقائق راسخةً الآن؛ فاللقاءات القصيرة في الهواء الطلق أقل خطورةً من المخالطات المطولة في الأماكن المغلقة. كما أن هناك الآن إجماعًا واسعًا من الخبراء على فاعلية ارتداء الجميع للكمامة والالتزام بتدابير التباعد الاحترازي.
ومع ذلك، فإن فهمنا المجزأ للتأثير المتبادل بين انتقال كوفيد-19 والتفاعل الاجتماعي بين البشر في العديد من البيئات المختلفة هو التحدي الرئيسي الذي يقف أمام رسم خريطة مفصلة لجميع مسارات العدوى في الأنشطة والمجموعات الاجتماعية المختلفة. ولإعداد إستراتيجيات احتواء موجهة إلى مواقع بعينها في البيئة الحضرية، من الضروري تعزيز معرفتنا بهذا التأثير المتبادل المعقد.
وتُجمَع حاليًّا على جناح السرعة أدلةٌ جديدةٌ لإعداد قاعدة معرفية مفيدة للحكومات المحلية ووزارات الصحة؛ للاستعانة بها في تعديل إستراتيجيات الوقاية والاحتواء وتحسينها، وجعلها أكثر وضوحًا وتحديدًا. ومن خلال دمج الاكتشافات الوبائية بالبيانات المتعلقة بحركة الناس ومخالطة بعضهم لبعض، يُصبح من الممكن معرفة “مواقع النشر الفائق للعدوى” واحتواؤها بفاعلية، وفي الوقت نفسه دعم الفئات المعرضة للخطر والتعامل معها على نحوٍ أفضل.
وبالأخذ في الحسبان أنه لا يزال أمامنا بعض الوقت للتوصل إلى لقاحات آمنة وفعّالة، علينا حشد الموارد التي نمتلكها في الوقت الحالي للتعامل مع هذا المرض، وتشكل البيانات الكبيرة عتادًا قويًّا. ويُعد التمويل الأكثر سخاءً ضروريًّا لتعزيز الأبحاث التي تتناول طبيعة حركة البشر والتعاملات الاجتماعية في جميع المواقع الحضرية التقليدية. ولهذا لا بد من أن تكرِّس المدن الموارد اللازمة لجمع بيانات حركة الناس وإعداد بنية قانونية وتقنية تسمح بمشاركة هذه البيانات لصالح الأبحاث المفيدة للمجتمع.
لقد فرضت علينا معركتنا مع كوفيد-19 اللجوء إلى إستراتيجيات متنوعة، بعضٌ منها أثبت فاعليته أكثر من البعض الآخر. وعندما نُلقي نظرةً فاحصةً على أساليب الاحتواء المختلفة ونفاضل بينها، تبدو نتائج الإغلاق التام مختلطة. وفي المقابل، فإن استخلاص المعلومات من البيانات الكبيرة وبحوث الوبائيات ودمجها بهدف التحديد المسبق لمواقع “النشر الفائق للعدوى” قد يساعد الحكومات على تجنُّب فرض عمليات الإغلاق التام القاسية. وتُعد تدابير الاحتواء المصغرة والموجهة والمركزة والمستندة إلى الحقائق التجريبية والمدعومة بالبيانات الكبيرة بديلاً ممكنًا. وباتباع هذا النهج، لن تبدو حلول التعامل مع كوفيد-19 عشوائيةً أو معتمدةً على الحدس والتخمين أو تتطلب خوض مخاطرات غير محسوبة.
المصدر: مجلة نيتشر
تعليقات